[قصة حزينة
قبل زمن ليس بالبعيد كانت تتجلى في مجتمعاتنا صوراً جميلة مشرقة، تعكس مدى ما كان عليه الناس من التمسك بالأخلاق العالية، والآداب الرفيعة.
ولو جلست مع من أدرك ذلك الزمان، ولم ينسلخ من مبادئة الكريمة، وطلبت منه أن يحدثك عن أحوال الناس آنذاك.. لحدثك حديثاً مصحوباً بالتنهدات والزفرات الحارة، هذا إن لم يعلو صوته نشيج وبكاء.. وحاله كقول القائل:
فزعت إلى الدموع فلم تجبني وفقـد الدمع عند الحزن داءُ
وما قصرت في حزن ولكن إذا عظم الأسى ذهب البكاء
فلا تستغرب.. ولا يأخذك العجب!! فإن طهارة الماضي صحبتها رقة في القلوب، وحنين لا ينقطع.
لقد كانت الغيرة والحياء والمروءة ومكارم الأخلاق هي السمة العامة لأغلب أهل المجتمع، ورأس المال الذي لا يفرِّطون به، ولا يسمحون لأحد أن يناله بسوء، وقد جمعني ذات مرة مجلس مع أحد كبار السن، ودار حديثي معه حول تلك الحقبة التاريخية الطيبة، وغيرة الناس في ذلك الزمان، فكان مما قال: "كانت الطفلة في السابق قبل سن العاشرة تخرج إلى الجيران، ترسل إليهم (النقصة)، فإذا بلغت العاشرة تُمنع من الخروج، وتسمى (مخفرة).. أما المرأة فكان لباسها يتكون من ثوب فضفاض يغطي كل جسمها، ويسحب في الأرض، تجُرُّه من خلفها، وتغطي وجهها بالملفع أو اللثام، وتلبس العباءة فوق ذلك..
وعادة النساء في ذلك الوقت أنه كان للمرأة يوم تزور فيه أهلها، تذهب مع الفجر مع الظلام قبل أن تشرق الشمس، ويبدو ضوء النهار واضحاً، حتى لا يكتشف الناس ملامحها.. يأخذها زوجها يذهب بها إلى أهلها، وعادة تأتي بعد صلاة العشاء حيث يكون الظلام أكثر فلا يراها الناس".
وقد بلغت الغيرة عند أولئك الناس في الزمن الماضي ذروتها، ولم تقتصر غيرتهم على أنفسهم فقط بل كانوا يغارون على مجتمعهم مما أثر في تماسكه وترابطه.
فقد كان الجار في الماضي له منزلة رفيعة، وتقدير من نوع خاص، حتى إن الرجل ليغار على محارم جاره كما يغار على محارمه، وربما يسافر الرجل الأيام المتوالية، وجاره يقوم على أهله بكل مروءة وحياء، لا تخالط قلبه ريبة، ولا طمع في رذيلة..
وكانت المرأة في ذلك الوقت تسير محتشمة متسترة، تخرج لقضاء حوائجها، ولا يستطيع أحد أن يقربها، أو يتفوَّه عليها بكلمة، لأنه ما أن يفكر في ذلك إلا ويرى الناس تلتف حوله من كل مكان، وقد يصل الأمر إلى ضربه.
وفي الماضي القريب كان الرجل يتهيّب أن يمر بين المنازل أكثر من مرة، لأنه ما إن يفعل ذلك حتى يستوقفه أهل الشارع، ويسألونه عن حاجته، فإن كان له حاجة وإلا مُنِع من المرور.
ولكن يا للأسف..
ما لبثت هذه الصور المشرقة طويلاً حتى آلت إلى الغروب، وما لبثت تلك الصور الجميلة أن صارت مشوهة قاتمة، ليس إلى الوضوح فيها من سبيل.. فبدأنا نرى تلك المناظر الموحشة والمشاهد المحزنة ـ التي تنـزه عنها أهل الجاهلية ـ، والتي تدل على تغير الناس، وتبدل أحوالهم.. فانظر يا رعاك الله كم من المسلمين وضع على منزله جهاز (الستلايت) أو (الدش) بحجة أنه يريد أن يرى الكرة أو الأخبار، {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول}، وهو يعلم بما يعرضه هذا الجهاز المفسد.. ثم يخرج من بيته ويترك الأسرة هملاً.. ولك أن تتصور عندما تأتي إحدى نسائه، وتدير هذا الجهاز بقصد أو بغير قصد، على إحدى القنوات اليهودية أو الفرنسية ـ أو ما تبثه بعض الدول المسلمة التي تخلت عن الكثير من مبادئ الإسلام ـ، فتشاهد فيهن العري والتفسخ، بل وتشاهد الرجل وهو يواقع المرأة، ومن هنا تبدأ المأساة، وتبدأ المرأة تحولاً جديداً في حياتها..
فهل يا ترى أن هذا الرجل الذي وضع (الستلايت) لا يعلم ما يُعرض فيه؟
بل هو يعلم، ولعله كان ينتقد من يضعه فوق بيته، ولكن بعد أن وضعه هو غَشِيَته الغفلة، واستحكم عليه الهوى وحب الشهوات، فلم يعد يتذكر حاله قبل ذلك.
وبعض المسلمين لا يحلو له المقام في بلاده في فترة الصيف، فيسافر إلى بعض البلدان التي تكثر فيها الفواحش، ومواخير الدعارة، والمراقص، والخمارات..
ولا يكتفي أن يذهب إليها بنفسه، بل يزيد على ذلك أن يأخذ أسرته معه إلى تلك البلاد المنسلخة من الفضيلة، بحجة أنه يريد (التصييف)، يتخلص بذلك من لوم بعض الفضلاء.
بل وصل الحال ببعضهم أن يأخذ بيد زوجته فيدخل معها إلى المرقص!!
يدخل إلى هذا المكان القذر ليري زوجته عورات النساء الراقصات العاهرات، التي لا تضع إحداهن على جسدها إلا ما يستر سوءتها، ولك أن تتصور حاله بعد أن يأخذ نصيبه من ذلك المسكر حيث يكون كالحمار يدور حول الرحى، حتى لو فُعِل بزوجته ما فُعِل لا يدري.
وبعض المسلمين يترك نساءه يعملن أو يدرسن بين صفوف الرجال، بل ومن المحزن أن ترى امرأة ذات نسب عريق، وأصل أصيل، وقد توظفت (سكرتيرة) عند بعض المسؤولين، تعرض مفاتنها أمامه، وتعطر المكتب قبل حضوره، وتنسق الزهور له، وتتفنن في أنواع اللباس حتى تكون غاية في الأناقة.
فيا لله العجب!!.. هل يتصور أن يحدث مثل هذا؟!!، ولو رأيت والدها أو أخاها أو زوجها في المجالس لقلت ليثاً غضنفراً، لا تقف في وجهه الرجال، ولكن ـ مع الأسف ـ مظهر فقط، ولكنه خاوٍ من أدنى معاني الرجولة الحقيقية.
ومن الأمور المحزنة، أن هذا الداء قد انتشر بين أهل الخير، فدَبّ فيهم التساهل والضعف، فإنك إذا رأيت أحدهم حين يمسي عليه الليل رأيت شهماً غيوراً ذا حمية وإباء، وما إن يصبح عليه الصباح حتى ترى ما يهولك، فقد تغير ذلك الشهم الغيور إلى إنسان منسلخ منحرف، حَلَّ في قلبه الوهن والخور، وتساوت عنده الأمور، فلم يعد يميّز بين الفضيلة والرذيلة و..
الملـح يصلح ما يُخشى تغيره فكيف بالملح إن حلت به الغِيَرُ
فتجد أن أحدهم تخرج معه زوجته وهي كاشفة لوجهها أو رأسها، أو لابسة النقاب الذي يظهر نصف الوجه، أو تظهر من خلاله العينان وقد وضعت عليها الكحل والزينة، فلا يتأثر.
وبعضهم تخرج ابنته أو زوجته أو أخته وقد لبست البنطلون أو (الجيبي كلوت) فلا يغار، بحجة أنها لبست فوقه العباءة.
وبعضهم تخرج نساءه إلى حفلات الأعراس، متجملة متبرجة، وحيدة مع السائق إلى ساعات الصباح الأولى، فلا يهتم لذلك.. بل قد لا يدري!!!.
وبعضهم تسافر نساءه من بلد إلى بلد، أو من مدينة إلى مدينة من غير محرم.. تركب إحداهن الطائرة متعرضة للأخطار والفتن ونظرات الرجال، وهي وحيدة ليس معها من يحميها، وزد على ذلك أن بعض النساء إذا ركبت الطائرة وليس معها رجل، فإنها لن تسلم من نظرة (المضيف) ـ أو غيره ـ، وتليين الكلام معها طمعاً في الحصول على شيء منها، لأنه يراها صيداً سهلاً..
وأدهى من ذلك وأمر.. ما يندى له القلب.. مما يحصل من بعض النساء حين تركب الطائرة، فإنها تكشف وجهها، أو تخلع عباءتها، حيث لا يكون عليها رقيب ولا حسيب..
ولا أظنه خافياً ما يحصل من بعض النساء من الضحك، والخلوة، والخضوع بالقول مع الأطباء، أو الباعة، أو بعض الموظفين في الدوائر الحكومية، ناهيك عن قيادة بعض النساء للسيارات يمرحن يميناً وشمالاً.
وهذا كله على سبيل التمثيل لا الحصر، وإلا فإن الهموم كثيرة والجروح نوازف..
وما خشيت من الماضي ونكبته إني أخاف على قومي من الآتي[/b]