الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولاعدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فالحقيقة أن الناظر إلى أحوال هذه الأمة ليرى العجب العجاب، وسرعان ما يتملّكه الهمّ والاكتئاب، لما يرى من شدة التغيُّر الذي طرأ على الناس في هذا الزمان، حتى أصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً، وأصبح من ينكر المنكر غريباً وكأنه جاء بأمر عجيب، وهذا هو مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء"[1].
ولذا فإن الغربة كل يوم تتجدد، وكلما تقدم الزمان كلما اشتدت الغربة، واستحكمت قبضتها على المصلحين المتمسكين بآثار صفوة الخلق من سلف هذه الأمة، فأصبحوا فرادى بين الناس، متميزين بين الخلائق، تعرفهم بسيماهم، قد تركوا الناس وهم أحوج ما يكونون إليهم، ولو رأيت حالهم لتمثل لك حال الغريب الذي شطت به الديار عن أهله، فتجده حزيناً كسيراً، تبكيه الكلمة، وتجرحه الإشارة، ويتخيل أن الناس كلهم ضده يريدون وأده حياً، ولعلك لا تستغرب لو رأيته منـزوياً إلى أحد الجدران يبكي وله نشيج مما في داخله من الحرقة والألم.
ولقد بدأت الغربة تستحكم منذ أن كسر الباب الذي كان بيننا وبين الفتن بمقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمنذ ذلك اليوم انطلقت الفتن، وبدأت تموج كموج البحر، ودارت رحاها على الناس، فأصبح الكثير منهم يتخبط لا يعرف الحق من الباطل ولا الصحيح من السقيم، وبسطت الدنيا نفوذها على كثير من البشر، فأصبحوا في غيهم سادرين، ونسوا وصية نبيهم الناصح الأمين ـ عليه الصلاة والسلام ـ التي قال فيها: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"[2].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا"[3].
ومن أجل أن يعرف الصالحون ما هم مقبلون عليه من الفتن والامتحان، فقد بيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما في طريقهم من العثرات والعقبات حتى لا يفاجأوا فيها، وذلك بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم"[4].
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "إنكم لن تروا من الدنيا إلا بلاءً وفتنة، ولن يزداد الأمر إلا شدة، ولن تروا من الأمراء إلا غلظة، ولن تروا أمراً يهولكم ويشتد عليكم إلا حقره ما بعدُ ما هو أشد منه".
وقال عروة بن الزبير: "كانت عائشة ـ أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ تقول: رحم الله لبيداً كان يقول:
ذهب الـذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فكيف لو أبصر زماننا هذا؟
قال عروة: ونحن نقول: رحم الله عائشة فكيف لو أدركت زماننا هذا؟"[5].
رحمك الله يا أماه..
فهي تقول هذا الكلام وهي تعيش في خير القرون، وبين صفوة البشر بعد الأنبياء: صحابة محمد صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنهم وأرضاهم.
فكيف لو أدركت زماننا هذا.. الذي تكالبت فيه قوى الشر على جهود الخير المتواضعة، وتحركت معاول الهدم على صرح الفضيلة تريد أن تمحو أثره من الوجود؟؟.
زمان فشى فيه الجهل والانسلاخ، وضيّعت فيه الأمانة، ونطق فيه الرويبضة[6].
زمان خوّن فيه الأمين، وأُمِّن فيه الخائن، وأكرم فيه أهل الباطل، وحقّر فيه أهل الحق، حتى أصبح المتمسكون بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم أندر من الذهب الأحمر فلا يؤخذ قولهم، ولا يجدون معيناً لهم، وأصبحوا غرباء حقا، لا يجدون على الحق أنصاراً.
وصدق فيهم وصف النبي صلى الله عليه وسلم للغرباء: "أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم"[7].
وانطبق على الكثير من أهل زمانهم قول القائل:
أرى حللاً تصان على رجال وأعراضاً تـذل فـلا تُصانُ
يقولون الزمان بـه فسـاد وهم فسدوا وما فسد الزمانُ
وكما أن التغيير حصل في انحراف كثير من الناس عن العقيدة الصحيحة، واتبعوا الأهواء ومضلات الفتن، فإنه ـ أيضاً ـ حصل التغيير في الأخلاق، فانحدر سلوك كثير من المسلمين، حتى والله لو قورن خلقه بأخلاق أهل الجاهلية لفضلوا عليه، مع ما أنعم الله عليه من نعمة الإسلام، ولا سيما في أخلاق عظيمة مرتبط بعضها ببعض، كالحمية، والمروءة، والغيرة على الأعراض، وحمايتها مما يدنّسها أو ينالها بسوء.
حتى قال بعضهم: "وددت لو أن لنا مع إسلامنا كرم أخلاق آبائنا في الجاهلية، ألا ترى أن عنترة الفوارس، جاهلي لا دين له، والحسن بن هانئ ـ أبو نواس ـ إسلامي له دين، فمنع عنترة كرمه ما لم يمنع الحسن بن هانئ دينه، فقال عنترة في ذلك:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يـواري جـارتي مـأواها
وقال الحسن بن هانئ مع إسلامه:
كان الشباب مطيـة الجهـل ومـحسّن الضحكـات والهـزلِ
والباعثي والناس قد رقــدوا حتى أتيـت حليـلة البعـــل"[8].